بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله
أخي: داوم على الطلب، فلن يخبت
الله دعوتك، ولن يمسك إجابته فهو الكريم، من أقبل علية قبله، ومن تاب إليه
تاب عبيه، ومن رجاه أمنه، ومن شكره زاده.
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول الله ،وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
قال الله -تعالى-: {لَّقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ
يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
- الرَّجاء: قال العلماء: "الرَّجاء عبادةٌ".
قال ابن خبيق-رحمه الله-:"الرَّجاء ثلاث:
- رجلٌ عمل حسنةٌ فهو يرجو قبولها.
- ورجلٌ عمل سيِّئة ثمَّ تاب فهو يرجو المغفرة.
- والثَّالث الرَّجل الكاذب يتمادى في الذُّنوب ويقول أرجو المغفرة".
وقيل: "الرَّجاء ثقة الجود من الكريم الودود".
وقيل:"النَّظر إلى سعه رحمة الله مع العمل والتَّوبة لا مع التَّسويف والتَّفريط، وترك الطَّاعات".
قال العفاني:
"الرَّجاء من أجلِّ منازل السَّائرين وأعلاها، وأشرفها، وعليه وعلى الحبِّ
والخوف مدار السَّير إلى الله -تعالى-، وقد مدح الله -تعالى- أهله وأثني
عليهم فقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] [الأحزاب: 21]".
وإذا
كان الرَّجاء عبادةٌ فهو يفتقر إلى ما لدى الإنسان من معرفة بالله
وبأسمائه وصفاته، فقوَّة الرَّجاء من باب قوَّة العلم والمعرفة والمعرفة
بذلك، ولولا ذلك، ذلك لما سارع ألإنسان بالتَّوبة، ولما أسرع وتحرَّك
بالطَّاعة إلى الله.
قال الإمام الهروي: "الرَّجاء يبعث العامل على الاجتهاد، ويولد التَّلذِّذ بالخدمة، ويوقظ الطِّباع للسَّماحة بترك المناهى".
ومعني
هذا أنَّ الرَّجاء يزيد المسلم نشاطًا في العبادة والطَّاعة وذلك وذلك لما
يرجوه من الله -تعالى- من ثواب العمل، ولو كان يسيرًا.
وأنَّ
المسلم كلَّما شاهد في قلبه ثمرة الرَّجاء بالله التذَّ بها، وسارع إلى
كلِّ طاعةٍ وقربةٍ، وبما أنَّ الرَّجاء يفتح بابًا للمغفرة، ويوقظ طباع
الإنسان بترك المحرمات والعزم على التَّوبة، لما يرجوه من جميل الإحسان من
ربِّه وغفران الإساءة، فالله -تعالى- يقول: {فَأُولَـٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 70].
أخي المسلم أختي المسلمة:
كم هي الذُّنوب؟ وكم هي الغفلة عنِ الطَّاعة؟ وكم تربص الهوى والشَّيطان
بنا فأنسنا بالدُّنيا وعسَّر علينا مفارقها حتَّى أخذ الهوى بأزمتنا وأمسك
الرَّدى بملتنا؟ ألا تقول كمن قال: "ويحي، إن لم يرحمني ربِّي، ويحي كيف لا
أنشط فيما يطفيها عني؟ بل ويحي، إن لم يرحمني ربِّي؟ كيف لا يذهب ذكر
خطيئتي كسلي، ولا يبعثني إلي ما يذهبها عني!".
أخي:
داوم على الطَّلب، فلن يخبت الله دعوتك، ولن يُمسك إجابته فهو الكريم، من
أقبل علية قبله، ومن تاب إليه تاب عليه، ومن رجاه أمَّنه، ومن شكره زاده.
روى
أبو نعيم -رحمه الله- عن يحي بن عمر التَّيمي -رحمه الله- قال: قال لي
سفيان بن عتيبة، وكنت طلبت الغزو فأخفقت وأنفقت ما كان معي، فآتاني حين
بلغه خبري وقد كان عرفني من قبل ذلك بطول مجالسته، فقال لي: لا تأس على ما
فاتك واعلم أنَّك لو رزقت شيئًا لأتاك. ثمَّ قالي لي: أبشر فإنَّك على
خيرٍ، تدري من دعا لك؟ قال: قلت من دعا لي؟ قال: دعا لك حملة العرش، ودعا
لك نبيُّ الله نوح -عليه السَّلام-، ودعا لك خليل الرَّحمن إبراهيم -عليه
السَّلام-، قال: قلت: دعا لي هؤلاء كلّهم! قال: نعم ودعي لك محمَّد رسول
الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: قلت: وأين دعا لي هؤلاء؟ قال: في كتاب
الله -عزَّ وجلَّ-، أما سمعت قول الله -تعالى-: {الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7].
قال:فأين دعا لي نبيُّ الله نوح -عليه السَّلام-؟ قال: أما سمعت قول الله -عزَّ وجلَّ-: {رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].
قال: قلت: وأين دعا لي خليل الله إبراهيم -عليه السَّلام-؟ قال: أما سمعت قول الله -تعالى-: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
قال: قلت: وأين دعا لي محمَّدٌ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟
قال: فهز رأسه ثم قال: أما سمعت قوله -عزَّ وجلَّ-: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمَّد: 19].
فكان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أطوع لله -عزَّ وجلَّ- وأبرَّ بأمَّته وأرقَّ لها من أن يأمره الله بشيءٍ فلا يفعله.
قال ابن السَّمَّاك -رحمه الله-
وهو يمجِّد الله -تعالى-: "فمن الذي يحصي نعمك ويقوم بأداء شكرك، ولقد
فكرت في طاعة المطيعين فوجدت رحمتك متقدمه لطاعتهم ولولا ذلك لما وصلوا
إليها فنسألك بالرَّحمة المتقدِّمة للمطيعين قبل طاعتهم كما مننت بها على
العاصين بعد معصيتهم".
قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-:
"جئت إلي سفيان الثَّوري عشية عرفة وهو جالس على ركبتيه وعيناه تمهلان،
فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالًا؟ قال: من ظنَّ أنَّ الله لا يغفر لهم".
قال معتمر بن سليمان التَّيمي -رحمه الله-: "قال لي أبي حين حضرته الوفاء: يا معتمر، حدثني بالرُّخص، لعلِّي ألقي الله -عزَّ وجلَّ-، وأنا أحسن الظَّنَّ به".
قال يحيى بن معاذ -رحمه الله-:
"إلهي أحلى العطايا في قلبي رجاؤك". وقال بعض العباد: "لما علمت أنَّ
ربِّي -عزَّ وجلَّ- يلي محاسبتي زال عني حزني؛ لأنَّ الكريم إذا حاسب عبده
تفضل".
قال المروزي -رحمه الله-: مرض
أعرابي فقيل له: إنَّك تموت قال: وأين يذهب بي؟ قالوا : إلى الله -عزَّ
وجلَّ-، قال: فما كراهتي أن أذهب إلي من لا أري الخير إلا منه".
وذكر ابن أبي الدُّنيا -رحمه الله-:
عن بكر بن سليمان -رحمه الله- قال: دخلنا على مالك بن أنس في العشيَّة
الَّتي قبض فيها، فقلنا: يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ قال: "ما أدرى ما أقول
لكم، إلا أنَّكم ستعاينون غدًا من عفو الله ما لم يكن لكم في حسابٍ، قال
ثمَّ برحنا حتَّى أغمضناه".
وقال داود الطَّائي -رحمة الله-:
"ما نُعوِّل إلا على حسن الظَّنِّ بالله -تعالى-، فأمَّا التَّفريط فهو
المستولي على الأبدان". وقال: "اليأس سبيل أعمالنا هذه ولكن القلوب تحنُّ
إلى الرَّجاء".
أخي المسلم: كن راجيًا رحمة الله مع الظَّنِّ به، فهو الكريم الرَّحيم، الَّذي يقول كما جاء في الحديث: «.. لله أرحم بعباده من هذه بولدها» [متفقٌ عليه]. وهو الَّذي يقول: {قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمر: 53].
قال العلماء: "معنى {إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}: لمن تاب".
ولهذا مدح الله -عزَّ وجلَّ- الرَّاجين له فقال -سبحانه-: {إِنَّ
الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّـهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن
تَبُورَ} [فاطر: 29].
كما ذمَّ الله من انقطع رجاءه بالله فقال -تعالى-: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّـهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وحتَّى لا تيأس من روح الله فإليك هذه الآية الَّتي قيل أنَّها أرجى آيةٍ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّـهَ يَجِدِ اللَّـهَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النِّساء: 110].
وقيل أرجى أيةٍ: {قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمر: 53].
روى الإمام البخاري -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إنَّ
لله مائة رحمةٍ أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجنِّ والإنس والبهائم
والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخَّر
الله تسعًا وتسعين رحمةً، يرحم بها عباده يوم القيامة» [رواه مسلم 2752].
قال ابن القيم الجوزية -رحمه الله-:
"الرَّجاء ضروريٌّ للمريد السَّالك الطَّائع. أمَّا ترك الطَّمأنينة مع
ترك المأمورات والإصرار على المنهيات، فأمنٌ وغرورٌ، ولذالك نهى الله
-تعالى- عن هذا فقال: {وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]".
قال معروف الكرخي -رحمه الله-: "رجاؤك رحمةٌ من لا تطيع خذلانٌ وحمقٌ".
فاحرص على الطَّاعة مع التَّوبة والإنابة، فقد قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسن الظَّنَّ بالله -عزَّ وجلَّ-» [رواه مسلم 2877].
اللهمَّ إنَّا نسألك العفو والصَّفح والغفران، ونرجو رحمتك، ونخشى عذابك.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
عيسى بن إبراهيم الدّريويش
دار ابن خزيمة